سورة النمل - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)}
{مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} الظاهر أن الضمير للهدهد و{بَعِيدٍ} صفة زمان والكلام بيان لمقدر كأنه قيل: ما مضى من غيبته بعد التهديد؟ فقيل: مكث غير بعيد أي مكث زمانًا غير مديد، ووصف زمان مكثه بذلك للدلالة على إسراعه خوفًا من سليمان عليه السلام وليعلم كيف كان الطير مسخرًا له، وقيل: الضمير لسليمان وهو كما ترى، وقيل: {بَعِيدٍ} صفة مكان أي فمكث الهدهد في مكان غير بعيد من سليمان، وجعله صفة الزمان أولى، ويحكى أنه حين نزل سليمان عليه السلام حلق الهدهد فرأى هدهدًا واسمه فيما قيل عفير واقعًا فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما لم يره دعا عريف الطير وهو النسر فسأله فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: على به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله تعالى وقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك على إلا رحمتني فتركته وقالت: ثكلتك أمك إن نبي الله تعالى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك قال: وما استثنى؟ بلى قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ} [النمل: 21] فقال: نجوت إذا فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعًا له فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله تعالى اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه، وعن عكرمة أنه إنما عفا لأنه كان بارًا بأبويه يأتيهما بالطعام فيزقهما لكبرهما، ثم سأله: {فَقَالَ أَحَطتُ بما لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي علمًا ومعرفة وحفظته من جميع جهاته، وابتداء كلامه بذلك لترويجه عنده عليه السلام وترغيبه في الإضغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فإن النفس للاعتذار المنبىء عن أمر بديع أقبل وإلى تلقي ما لا تعلمه أميل، وأيد ذلك بقوله: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} حيث فسر ابهامه السابق نوع تفسير وأراه عليه السلام أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة له حيث عبر عما جاء به بالنبأ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه، وقال الزمخشري: إن الله تعالى ألهم الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه وتنبيهًا على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علمًا بما لم يحط به ليتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ويكون لطفًا له في ترك الاعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة انتهى، وتعقب بأن ما أحاط به من الأمور المحسوسة التي لا تعد الإحاطة بها فضيلة ولا الغفلة عنها نقيصة لعدم توقف إدراكها إلا على جرد إحساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم وماذا صدر عنه عليه السلام مع ما حكى عنه ما حكى من الحمد والشكر والدعاء حتى يليق بالحكمة الإلهي تنبيهه عليه السلام على تركه واعترض بأن قوله: {أَحَطتُ} إلخ ظاهر في أنه كلام مدل بعلمه مصغر لما عند صاحبه وأن العلم بالأمور المحسسة وإن لم يكن فضيلة إلا أن فقده بالنسبة إلى سليمان عليه السلام وملكه وإلقاء الريح الأخبار في سمعه يدل على ما يدل، وفي التنبيه المذكور تثبيت منه تعالى له عليه السلام على الحمد والشكر وهو ما يناسب دعاؤه السابق بقوله: {رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [النمل: 19]، ولعل الأولى والأظهر مع هذا ما ذكر أولًا. و{سَبَإٍ} منصرف على أنه لحي من الناس سموا باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وفي حديث فروة وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سبأ اسم رجل ولد عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة والستة حمير. وكندة. والأزد. واشعر. وخثعم، والأربعة لخم. وجذام وعاملة. وغسان؛ وقيل: سبأ لقب لأبي هذا الحي من قحطان اسمه عبد شمس، وقيل: عامر، ولقب بذلك لأنه أول من سبى.
وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو {مِن سَبَإٍ} بفتح الهمزة غير مصروف على أنه اسم للقبيلة ثم سميت به ما رب سبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، وجوز أن يراد به على الصرف الموضع المخصوص وعلى منع الصرف المدينة المخصوصة، وأشندوا على صرفه قوله:
الواردون وتيم في ذري سبأ *** قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقرأ قنبل من طريق النبال بإسكان الهمزة وخرج على إجراء الول مجرى الوقف، وقال مكي؛ الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي، وقرأ الأعمش {مِن سَبَإٍ} بكسر الهمزة من غير تنوين حكاها عنه ابن خالويه. وابن عطية، وخرجت على أن الجر بالكسرة لرعاية ما نقل عنه فإنه في الأصل اسم الرجل أو مكان مخصوص وحذف التنوين لرعاية ما نقل إليه فإنه جعل اسمًا للقبية أو للمدينة وهو كما ترى، وقرأ ابن كثير في رواية {مِنْ} بتنوين الباء على وزن رحى جعله مقصورًا مصروفًا، وذكر أبو معاذ أنه قرأ {مِنْ} بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة على وزن فعلي فهو ممنوع من الصرف للتأنيث اللازم.
وروى ابن حبيب عن اليزيدي {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ} بألف ساكنة كما في قولهم: {تَفَرَّقُواْ أَيْدِىَ سَبَإٍ}، وقرأ فرقة {بِنَبَإٍ} بالألف عوض الهمزة وكأنها قراءة من قرأ سبأ بالألف لتتوازن الكلمتان كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمزة المكسورة والتنوين، وفي التحرير أن مثل {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} يسمى تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل من الكلمتين بحرف كما في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بما كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الارض بِغَيْرِ الحق وَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] وحديث: «الخيل معقود بنواصيها الخير».
وقال الزمخشري: إن قوله تعالى: {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعًا أو يصيغه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هاهنا زائدًا على الصحة فحسن وبدع لفظًا ومعنى ألا ترى لو وضع مكان {بِنَبَإٍ} بخبر لكان المعنى صحيحًا، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال اه. وهذه الزيادة كون الخبر ذا شأن، وكون النبأ عنى الخبر الذي له شأن مما صرح به غير واحد من اللغويين. والظاهر أنه معنى وضعي له. وزعم بعضهم أنه ليس بوضعي وليس بشيء، وقول المحدثين: أنبأنا أحط درجة من أخبرنا غير وارد لأنه اصطلاح لهم. وقرأ الجمهور {فَمَكَثَ} بضم الكاف، والفتح قراءة عاصم. وأبي عمرو في رواية الجعفي. وسهل. وروح. وقرأ أبي {فَمَكَثَ ثُمَّ قَالَ}. وعبد الله {فَمَكَثَ فَقَالَ}، وكلتا القراءتين في الحقيقة على ما في البحر تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف. وقرئ في السبعة {أَحَطتُ} بإدغام التاء في الطاء مع بقاء صفة الإطباق وليس بإدغام حقيقي.
وقرأ ابن محيصن بإدغام حقيقي. واعترض ابن الحاجب القراءة الأولى بأن الإطباق وهو رفع اللسان إلى ما يحاذيه من الحنك للتصويت بصوت الحرف المخرج لا يستقيم إلا بنفس الحرف وهو الطاء هنا والإدغام يقتضي إبدالها تاء وهو ينافي وجود ذلك لأنه يقتضي أن تكون موجودة وغير موجودة وهو تناقض فالتحقيق أن نحو أحطت بالإطباق ليس فيه إدغام ولكنه لما أمكن النطق بالثاني مع الأول من غير ثقل على اللسان كان كالنطق بالمثل بعد المثل فأطلق عليه الإدغام توسعًا قاله الطيبي. وفي النشر أن التاء تدغم في الطاء في قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار} [هود: 114] وفي التسهيل أنه إذا أدغم المطبق يجوز إبقاء الاطباق وعدمه. وقال سيبويه: كل كلام عربي كذا «الحواشي الشهابية» فتأمل.
وفي قوله تعالى: {أَحَطتُ} إلخ دليل بإشارة النص والإدماج على بطلان قول الرافضة: إن الإمام ينبغي أن لا يخفى عليه شيء من الجزئيات، ولا يخفى أنهم إن عنوا بذلك أنه يجب أن يكون الإمام عالمًا على التفصيل بأحكام جميع الحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها وأن يكون مستحضرًا الجواب الصحيح عن كل ما يسأل عنه فبطلان كلامهم في غاية الظهور، وقد سئل علي كرم الله تعالى وجهه وهو على منبر الكوفة عن مسألة فقال: لا أدري فقال السائل: ليس مكانك هذا مكان من يقول: لا أدري فقال الإمام كرم الله تعالى وجهه.
بلى والله هذا مكان من يقول لا أدري وأما من لا يقول ذلك فلا مكان له يعني به الله عز وجل وإن عنوا أنه يجب أن يكون عالمًا بجميع القواعد الشرعية وبكثير من الفروع الجزئية لتلك القواعد بحيث لو حدثت حادثة ولا يعلم حكمها يكون متمكنًا من استنباط الحكم فيها على الوجه الصحيح فذاك حق وهو في معنى قول الجماعة يجب أن يكون الإمام مجتهدًا. وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. وقوله تعالى:


{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}
{إِنّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} أي تتصرف بهم ولا يعترض عليها أحد استئناف لبيان ما جاء به من النبأ. وتفصيل له إثر إجمال وعني بهذه المرأة بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان من نسل يعرب بن قحطان، ويقال: من نسل تبع الحميري.
وروى ابن عساكر عن الحسن أن اسم هذه المرأة ليلى وهو خلاف المشهور، وقيل: اسم أبيها السرح بن الهداهد.
ويحكى أنه كان أبوها ملك أرض اليمن كلها وورث الملك من أربعين أبًا ولم يكن له ولد غيرها فغلبت بعده على الملك ودانت لها الأمة. وفي بعض الآثار أنه لما مات أبوها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون فملكوا عليهم جرلًا يقال: إنه ابن عمها وكان خبيثًا فأساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يفجر بنساء رعيته فأرادوا خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها وقال: ما منعني أن ابتدئك بالخطبة إلا إلياس منك قالت: لا أرغب عنك لأنك كفؤ كريم فاجمع رجال أهلي وأخطبني فجمعهم وخطبها فقالوا: لا نراها تفعل فقال: بلى إنها رغبت في فذكروا لها ذلك فقالت: نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت مع أناس كثير من حشمه وخدمها فلما خلت به سقته الخمر حتى سكر فقتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم، وقالت: أما كان فيكم من يأنف من الفجور بكرائم عشيرته ثم أرتهم إياه قتيلًا، وقالت: اختاروا رجلًا تملكوه عليكم فقالوا: لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرًا وخديعة منها واشتهر أن أمها جنية.
وقد أخرج ذلك ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن مجاهد. والحكيم الترمذي. وابن مردويه عن عثمان بن حاضر أن أمها امرأة من الجن يقال لها بلقمة بنت شيصا. وابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أن أمها فارعة الجنية. وفي «التفسير الخازني» أن أباها شراحيل كان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤًا لي وأبى أن يتزوج فيهم فخطب إلى الجن فزوجوه امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن وسبب وصوله إلى الجن حتى خطب إليهم على ما قيل إنه كان كثير الصيد فرا اصطاد الجن وهم على صور الظباء فيخلى عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقًا فخطب ابنته فزوجه إياها. وقيل: إنه خرج متصيدًا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت فأطلقها فلما رجع إلى داره جلس وحده منفردًا فإذا هو معه شاب جميل فخاف منه فقال: لا تخف أنا الحية البيضاء الذي أحييتني والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال: لا حاجة لي به ولكن إن كان لك بنت فزوجينها فزوجه ابنته فولدت له بلقيس انتهى، وأخرج ابن جرير.
وأبو الشيخ في العظمة. وابن مردويه. وابن عساكر عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أبوي بلقيس كان جنيًا» والذي ينبغي أن يعول عليه عدم صحة هذا الخبر، وفي البحر قد طولوا في قصصها يعني بلقيس بما لم يثبت في القرآن ولا الحديث الصحيح وأن ما ذكر من الحكايات أشبه شيء بالخرافات فإن الظاهر على تقدير وقوع التناكح بين الأنس والجنس الذي قيل يصفع السائل عنه لحماقته وجعله أن لا يكون توالد بينهما، وقد ذكر عن الحسن فيما روى ابن عساكر أنه قيل بحضرته: إن ملكة سبأ أحد أبويها جني فقال: لا يتوالدون أي أن المرأة من الإنس لا تلد من الجن والمرأة من الجن لا تلد من الإنس. نعم روى عن مالك ما يقتضي صحة ذلك.
ففي الأشباه والنظائر لابن نجيم روى أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال: كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا: إن هاهنا رجلًا من الجن زعم أنه يريد الحلال فقال: ما أرى بأسًا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها من زوجك؟ قالت: من الجن فيكثر الفساد في الإسلام بذلك انتهى، ولعله لم يثبت عن مالك لظهور ما يرد على تعليل الكراهة، ثم ليت شعري إذا حملت الجنية من الإنسي هل تبقى على لطافتها فلا ترى والحمل على كثافته فيرى أو يكون الحمل لطيفًا مثلها فلا يريان فإذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني آدم أو تكون متشكلة بشكل نساء بني آدم أو تكون متشكلة بشكل نساء بني آدم ما دام الحمل في بطنها وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل إليه من غذائها وكل الشقوق لا يخلو عن استبعاد كما لا يخفى، وإيثار {وَجَدتُّ} على رأيت لما أشير إليه فيما سبق من الإيذان لكونه عند غيبته بصدد خدمته عليه السلام بإبراز نفسه في معرض من يتفقد أحوالها ويتعرفها كأنها طلبته وضالته ليعرضها على سليمان عليه السلام، وقيل: للإشعار بأن ما ظفر به أمر غير معلوم أولًا لأن الوجدان بعد الفقد وفيه رمز بغرابة الحال، وضمير {تَمْلِكُهُمْ} لسبأ على أنه اسم للحي أو لأهلها المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنها اسم لها. وليس في الآية ما يدل على جواز أن تكون المرأة ملكة ولا حجة في عمل قوم كفرة على مثل هذا المطلب.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: {لَنْ يُفْلِحُ قَوْمٌ وَلَوْ أَمَرَهُمْ امرأت} ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ولم يصح عنه وفي الأشباه لا ينبغي أن تولي القضاء وإن صح منها بغير الحدود والقصاص، وذكر أبو حيان أنه نقل عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنها تقضي فيما تشهد فيه لا على الإطلاق ولا على أن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم وإنما ذلك على سبيل التحكيم لها {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء} أي من الأشياء التي تحتاج إليها الملوك بقرينة {تَمْلِكُهُمْ}، وقد يقال: ليس الغرض إلا إفادة كثرة ما أوتيت.
والجملة تحتمل أن تكون عطفًا على جملة {تَمْلِكُهُمْ} وأن تكون حالًا من ضمير تملكهم المرفوع بتقدير قد أو بدونه {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قال ابن عباس كما أخرجه عنه ابن جرير. وابن المنذر أي سرير كريم من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن، وروى عنه أيضًا أنه كان ثلاثين ذراعًا في ثلاثين ذراعًا وكان طوله في السماء ثلاثين ذراعًا أيضًا، وقيل: كان طوله ثمانين في ثمانين وارتفاعه ثمانين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه سرير من ذهب وصفحتاه مرصعتان بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعًا في عرض أربعين ذراعًا، وقيل: كان من ذهب مكللًا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق، وقيل: غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وبالجملة فالظاهر أن المراد بالعرش السرير، وقال أبو مسلم المراد به الملك ولا داعي إليه. واستعظام الهدهد لعرشها مع ما كان يشاهده من ملك سليمان عليه السلام إما بالنسبة إلى حالها أو إلى عروش أمثالها من الملوك، وجوز أن يكون ذلك لأنه لم يكن لسليمان عليه السلام مثله وإن كان عظيم الملك فإنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هم تحت طاعته. وأيًا ما كان فوصفه بذلك بين يديه عليه السلام لما ذكر أولًا من ترغيبه عليه السلام في الإصغاء إلى حديثه وفيه توجيه لعزيمته عليه السلام نحو تسخيرها ولذلك عقبه بما يوجب غزوها من كفرها وكفر قوامها حيث قال:


{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)}
{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله تعالى. قال الحسن كانوا مجوسًا يعبدون الأنوار، وقيل: كانوا زنادقة.
والظاهر أن هذه الجملة استئناف كلام وأن الوقف على {عظِيمٌ} [النمل: 23] قال «صاحب المرشد» ولا يوقف على عرش وقد زعم بعضهم جوازه وقال معناه عظيم عند الناس. وقد أنكر هذا الوقف أبو حاتم وغيره من المتقدمين ونسبوا القائل به إلى الجهل، وقول من قال معناه عظيم عبادتهم للشمس من دون الله تعالى قول ركيك لا يعتد به وليس فـ يالكلام ما يدل عليه، وفي الكشاف من نوكي القصاص من وقف على {عَرْشَ} [النمل: 23] يريد عظيم إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} التي هي عبادة الشمس ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي، والجملة تحتمل العطف على جملة {يَسْجُدُونَ} والحالية من الضمير على نحو ما مر آنفًا {فَصَدَّهُمْ} أي الشيطان، وجوز كون الضمير للتزيين المفهوم من الفعل أي فصدهم تزيين الشيطان {عَنِ السبيل} أي سبيل الحق والصواب {فَهُمُ} بسبب ذلك {لاَ يَهْتَدُونَ} إليه.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11